بسم الله الرحمن الرحيم
حكم النظر إلى الأجنبيات المتبرجات في الوسائل الحديثة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ؛ نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد : -
فقد ظهرت الفتن في زماننا هذا وعمت وانتشرت حتى أصبح الدين غريباً بين أهله ،وساد الجهل وطغى على الناس ، ورغب الناس في الأموال والعيال ، وانصرفوا عن العلم والعلماء ، وتكلم الحمقاء ، وأُسكت الفقهاء ، وتصدر الجهلاء، وضاع الناس في الظلمات والنورُ بين أيديهم، وتسلط الكافرون وتخاذل المسلمون، ورفع النصارى لواء الحرب الصليبية من جديد، ورفع أذنابهم رايات الاستسلام ، وتبعوهم في كل صغيرة وكبيرة حذو القُذة بالقُذة؛ فلا يلِغُون في جيفة إلا وزاحموهم عليها، ولا يتمرغون في قذرة إلا ونافسوهم فيها ، ولا يلِجون في جحور الحيوان إلا ولَجوا وراءهم حتى وصل الحال بالكافرين أنهم يتسافدون تسافد الحيوان في الطرقات ، وسارعوا إلى التبرج والتعري مسارعتهم إلى المأكولات والمشروبات ، وأصبحوا يتسابقون في نشر آخر الصور الثابتة منها والمتحركة بشتى الوسائل والأساليب ؛ سواء كان ذلك عن طريق الصور الفوتغرافية أو الصحف والمجلات أو الفيديو كليب أو القنوات الفضائية أو الديجيتال أو الانترنت أو غيرها من الوسائل الحديثة أو القديمة وتبعهم في ذلك كله أذنابهم من المنافقين ممن لا خلاق له ، ولقد وصل الأمر ببعضهم إلى التجسس على عورة أخيه المسلم وتراه يتصيد غفلته ليقوم بتصوير عوراته ونشرها في هذه الوسائل للنكاية به أو فضيحته أو تشويهه بل ربما لغرض إمتاع المشاهدين بهذه الصور .
وأمر هذه الصور وإن كان واضحاً في حرمتها عند القاصي والداني إلا أني أحببت أن أذكر حكمها ، وأدلة تحريمها خشيةً من أن يطول بالناس الزمان وهم على هذه الحال ؛ فيأتي إليهم شياطينهم فيُفتونهم بأن هذه الصور مباحة ، وأنها جائزة شرعاً ؛ فأقول مستعيناً بالله ، وهو حسبي ونعم الوكيل :
سعى الإسلام في تشريعه إلى الحفاظ على الضروريات الخمس ، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال ، وشرع لذلك تشريعاً عظيماً مداره على الحفاظ على هذه الخمس لدوام حياة الفرد والجماعة ، وعلى تحسينها وتجميلها لتحقيق الرفاهية ولجريانها على السهولة واليسر بعيداً عن العنت والمشقة ؛ ولذا فإنه حرّم على المرء كل ما يضره وأمره بفعل كل ما ينفعه . ومع ذلك فليس كل ضرر معتبرٌ ، وليست كل مصلحة معتبرةٌ ؛ بل إن المصلحة المعتبرة هي التي حددها الشارع الحكيم وكذلك المفسدة ، حتى لا تكون المصالح والمفاسد مبنية على الأمزجة والأهواء ، وإلا لساد الهرج والمرج ولدبّ الصراع بين الناس ، ومن هنا كان لا بد على العبد إن أراد تحقيق مصلحته أن تكون موافقة لمراد الشارع الحكيم ، ولا بد في درء المفسدة عنه أن تكون موافقة لمراد الشارع أيضاً .
والنظر إلى عورة الأجنبية عموماً - سواء كان مباشرة أو في الوسائل الحديثة من تلفاز أو صور فوتوغرافية أو فيديو كليب أو تصوير حصري أو غيرها من وسائل – هذا النظر لا يخلو من أن يحقق مصلحة أو لا .
فأما أن هذه النظرة قد حققت مصلحة ، فهو غير وارد لأن هذه المصلحة المتوهمة ملغاة ؛ لأنها مصلحة عاجلة حققت نفعاً مؤقتاً للمكلف من إشباع شهوته وإمتاع نظره ولكنها قد عارضتها مفسدة أكبر منها ؛ وهي المعصية التي لحقت العبد بهذه النظرة التي نهى الله عنها ؛ مع ما يعقب ذلك من حسرة وندامة وألم معنوي بالغ يلحقه بسبب تعديه على حدود الله ، قال تعالى: ﴿ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق :1] ، وقد عُلِم عند من له أدنى معرفة بالشريعة أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ، وإذا تعارضت مفسدة في الدنيا مع مفسدة في الآخرة قُدِم درء مفسدة الآخرة .
وأما أن هذه النظرة قد جلبت مفسدة على المكلف فهو أمر واضح لأن الله قد حرمها ، والله لا يحرم إلا ما فيه مفسدة على العبد ، قال القرطبي : (البصر هو الباب الأكبر إلى القلب ، وأعمر طرق الحواس إليه ، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه ، وغضه واجب عن جميع المحرمات ، وكل ما يخشى الفتنة من أجله ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - " إياكم والجلوس على الطرقات " فقالوا : يا رسول الله مالنا من مجالسنا بُدٌ نتحدث فيها . فقال " فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه " قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله . قال " غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " رواه أبو سعيد الخدري خرجه البخاري ومسلم (1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - لعلي " لا تتبع النظرةَ النظرةَ فإنما لك الأولى وليست لك الثانية )(2)، وقال ابن كثير Sad ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب كما قال بعض السلف: النظر سهم سم إلى القلب ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك، فقال تعالى : ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ [النور:30] أهـ)(3)
ومن الأدلة على تحريم هذه الصور وعلى تحريم النظر إليها ما يلي :
أولاً الأدلة من القرآن الكريم :
1- قوله تعالى :﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور:30،31] ، فقد دلت على حرمت النظر إلى العورات من الرجال والنساء على حد سواء على العموم سواء كان ذلك نظراً مباشراً أو نظراً بواسطة ، وفي البخاري وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن : إن نساء العجم يكشفن صدورهم ورءوسهن . قال : اصرف بصرك ، يقول الله تعالى :﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ [النور:30] ، قال قتادة : عما لا يحل لهم، قال تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [ النور:31] ، ويقول تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ ﴾ [غافر: 19] ، من النظر إلى ما نهي عنه )(4). قال ابن كثير Sad هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا أبصارهم عما حُرِّم عليهم فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم )(5). وقد ذكر الطبري عن ابن زيد قال Sad يغض من بصره أن ينظر إلى ما لا يحل له إذا رأى ما لا يحل له غض من بصره لا ينظر إليه )(6) . قال القرطبي : ( ولم يذكر الله تعالى ما يغض البصر عنه ويُحفظ ؛ لأن ذلك معلوم بالعادة وأن المراد منه المحرم دون المحلل )(7).
2- قوله تعالى : ﴿ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ [ النور :30 ] ،وقوله تعالى : ﴿ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾[النور :31] ، والأمر بحفظ الفروج دليل على حرمة النظر إليها . قال القرطبي Sad أي يستروها عن أن يراها من لا يحل ، وقيل : ويحفظوا فروجهم أي عن الزنا .. قال : والصحيح أن الجميع مراد واللفظ عام ،وقد روى بهز بن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه عن جده قال : قلت يا رسول الله : عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " قال : الرجل يكون مع الرجل ؟ قال " إن استطعت ألا يراها فافعل " قلت : فالرجل يكون خالياً ؟ فقال : " الله أحق أن يستحيا منه من الناس " (Cool، والنساء مثل الرجال في هذا ، ولا شك أن الأمر بحفظ الفروج إنما كان لئلا يراها أحد ؛ بصرف النظر عن وسيلة الرؤية ، ولا شك أن النظر إلى هذه الصور داخل في مسمى الرؤية والنظر الوارد في هذه الآية ؛ فالتحريم على هذا شامل له .
كما أن الآية قد بيّنت أن الأمر بغض البصر وحفظ الفروج إنما هو لطلب زكاة النفوس ، ولا شك أن النظر إلى هذه الصور الخليعة – التي تُبَث في الوسائل الحديثة بكل أشكالها - لا يحقق هذه التزكية المنشودة فالنظر إليها محرم إذاً كالنظر إلى الخلاعة مباشرة لاشتراكهما في العلة .
كما أن الاستثناء في قوله تعالى: ﴿ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ.. ﴾[النور:31] يدل على أن الأصل هو أن تُخفي المرأة زينتها عن الأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه عنهم لتعذره ؛ فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، أو لعدم الفتنة في إظهاره - كالوجه واليدين - على الخلاف في اعتبارهما من الزينة أم لا .
والآية أيضاً قد نهت النساء عن ضرب الأرض بأقدامهن ليُعلَم ما يُخفين من زينتهن وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾[النور:31]، فإذا كان هذا لئلا يُعلم ما يُخفين من زينتهن فكيف إذا أظهرن هذا المخفي بالصور أو غيرها ؟! فهو بالتحريم أولى.
3- الأمر بخفض الصوت وعدم إِلانة الحديث عند التخاطب مع الرجال، قال تعالى : ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ﴾[الأحزاب:32] ، (أي لا تُلِنَّ القول ؛ أمرهن الله أن يكون قولهن جزلاً وكلامهن فصلاً، ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه مثل كلام المريبات والمومسات فنهاهن عن مثل هذا )(9)، ( قال السدي وغيره : يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال ؛ ولهذا قال تعالى : ﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾[الأحزاب:32]، أي دَغَل، وقال تعالى : ﴿ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ﴾ [الأحزاب: 32] قال ابن زيد : قولاً حسناً جميلاً معروفاً في الخير، ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم ، أي لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها )(10)، قال الطبري : ( يقول فلا تَلِنَّ بالقول للرجال فيما يبتغيه أهل الفاحشة منكن )(11) .
وهذه الآية قد بيَّنت حرمة التأسي بالمومسات وأهل الفاحشة في إِلانة الحديث وترخيمه، ومثله أيضاً التأسي بهن في تبرجهن وسفورهن، وكذا تصويرهن في هذه الوسائل وهُنَّ على هذه الحال المزرية ؛ فإذا حرُم تصويرهن وهُنَّ على هذه الحال فكذا النظر إليهن ؛ لأن ما يتم الحرام به فهو حرام .
4- قوله تعالى : ﴿ وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ﴾[الأحزاب:60] ، فإذا كان الكبيرات في السن قد أُمِرن بعدم التبرج فبالأولى والأحرى الشابات منهن ، والمعنى : ( غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة ليُنظر إليهن ؛ فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق ، والتبرج : التكشف والظهور للعيون )(12)، وقال الطبري Sad التبرج : هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تستره )(13).
5- قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ﴾[الأحزاب:59)، أي لتنقطع الأطماع عنهن ؛ لأنه إذا كان زيُّهن حسناً لم يطمع فيهن المنافقون ولا من في قلبه مرض . قال القرطبي Sadأمر الله سبحانه جميع النساء بالستر وأن ذلك لا يكون إلا بما لا يصف جلدها؛ إلا إذا كانت مع زوجها فلها أن تلبس ما شاءت ؛ لأن له أن يستمتع بها كيف شاء)(14) ( والجلباب هو الرداء فوق الخمار، قاله ابن مسعود وعبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغير واحد ، وهو بمنزلة الإزار، قال الجوهري : الجلباب المِلحفة )(15) .
6- قوله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾[النور:19] ، (والفاحشة : الفعل القبيح المفرط القبح ، وقيل : الفاحشة في هذه الآية : القول السيئ )(16)، ولا شك أن مثل هذه الصور الخليعة ونشرها داخل في معنى إشاعة الفاحشة ؛ فإن مثل هذا الفعل من القبح بمكان ؛ هذا على القول بأن الفاحشة هي الفعل القبيح ، وأما على القول الثاني فإن هذه الصور تستوي في تحريمها مع القول السيئ في الحرمة ؛ لأن ما يفتن المرء عن طريق آذانهم مثلُ الذي يفتنهم عن طريق أبصارهم .
كما لا يوجد شك أيضاً أن هذه الصور ونشرها من طرائق الشيطان ومسالكه وخطواته ،وهو من الفحشاء والمنكر، والله يقول : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾[النور: 21] ، وعليه فالنظر إلى هذه الصور حرام ؛ لأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد .
7- قوله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾[البروج :10) ، وقد قيل أن الآية عامة في كل من آذى المؤمنين ليفتنهم عن دينهم ويردهم عنه بأي أنواع الفتنة والتعذيب(17).
ثانياً الأدلة من السنة النبوية :
1- عن أم الدرداء – رضي الله عنها - قالت : لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خرجت من الحمام فقال " من أين يا أم الدرداء ؟ " فقالت : من الحمام . فقال " والذي نفسي بيده ، ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل" (18) ، وعن عائشة – رضي الله عنها -قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول " ما من امرأة تضع أثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها" (19) فقد دل الحديثان على حرمة أن تخلع المرأة ثيابها في غير بيت زوجها أو أهلها، وهذا في الخلع المجرد فضلاً عن أن يصحب ذلك تصويراً لمفاتنها فإن هذا بالتحريم أولى .
2- وعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- " أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية " (20) والحديث قد دل على حرمة استمالة الرجال بحاسة الشم ، ومثل ذلك في الحرمة استمالتهم بحاسة البصر. ويلزم من هذا التحريم أيضاً تحريم النظر إليها على العموم سواء كان ذلك بواسطة – كهذه الوسائل الحديثة - أو بدون واسطة .
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان المنطق ، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه" (21) وهذا الحديث قد دل على حرمة النظر إلى المحرمات على العموم ، ومن لازم ذلك حرمة تصوير مفاتن المرأة عبر الوسائل الحديثة .
4- وعن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا "(22)، وإنما استحق هؤلاء النسوة دخول النار للتعري المجرد فكيف باللواتي يصورن منهن وهن على هذه الحال ؟ ، ولا شك أنهن قد وقعن في هذا الوعيد بسبب أنهن يستملن الرجال إليهن ، ولا شك أن هذا التصوير الذي نتحدث عنه مما يستميل الرجال .
5- وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم – " لا تباشر المرأةُ المرأةَ فتنعتُها لزوجها كأنه ينظر إليها "(23) ، وهذا الحديث قد دل على حرمة أن تصف المرأةُ محاسنَ المرأةِ ومفاتنَها لزوجها أو غيره وقد اعتبر الحديث وصفها هذا مشبهاً بالنظر إليها ، وبالأولى منه في الحكم أن تصورها له أو لغيره في هذه الوسائل الحديثة فهو بذلك ينظر إليها ويراها رأي العين ، وإذا كان الحديث قد ذكر مجرد التخيل المحدود بوقت قصير فكيف بالتخيل المصحوب بالمشاهدة ولوقت أطول غالباً ؟ .
ثالثاً الاستقراء :
قد عُلِم من خلال استقراء نصوص الشريعة – إضافةً إلى ما سبق - أنها لا تجد باباً للفتنة إلا أغلقته ولا طريقاً للشر إلا قطعته ؛ ولذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم – عن سفر المرأة بغير محرم لئلا تتعرض للفتنة ، ونهى عن الاختلاط ومزاحمة الرجال للنساء ومزاحمة النساء للرجال ، كما نهى أيضاً عن تشبه النساء بالرجال وعن تشبه الرجال بالنساء ، واعتبر الإسلام الحمو : الموت ؛ لأن دخوله إلى بيت أخيه لا ريبة فيه مع كونه من الأجانب، ونهى الإسلامُ المرأةَ أن تأذن لأحد بدخول بيت زوجها إلا بإذنه ، ونهى المؤمنَ أن ينكح الزانية كما نهى المؤمنةَ أن تنكح الزاني ، كما نهى الإسلام عن مصافحة المرأة للأجانب والعكس ، ونجد الإسلام قد رغَّب المرأة في الصلاة في بيتها وجعل صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد ؛ لأن خروجها إلى المسجد يعرِّضها للرجال ، وجعل مع ذلك صفوف النساء في الصلاة متأخرة عن صفوف الرجال ، وجعل خير صفوف الرجال أولها؛ لأنها بعيدة عن صفوف النساء ، وخير صفوف النساء آخرها ؛ لأنها بعيدة عن صفوف الرجال ، كما نجد الإسلام قد اعتبر خروج المرأة من بيتها متعطرة مظنة ودليلاً على فسادها ؛ ولذلك نهى عن هذا الفعل كما تقدم ، كما نهى الإسلام المرأة أن تنظر إلى الرجل حتى ولو كان أعمى لا يبصرها.
بل إن من حِكَم مشروعية الجهاد رد الفتنة عن الناس قال تعالى : ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة :193]، وقد قيل إن المراد بالفتنة في الآية (المحنة التي تنـزل بالإنسان في نفسه أو أهله أو ماله أو عرضه)(24)،وكشف العورات وتصويرها من الفتن التي تلحق الناس في أعراضهم ولا يكاد يجادل في هذا إلا من أنكر عقله ، بل إن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – قد أعلن الحرب على يهود بني قينقاع لأنهم أرادوا فتنة المسلمين بكشف عوراتهم ، ولا شك أن من ستتصور وهي متعرية في هذه الوسائل لا شك أنها ستكشف عوراتها .
كما لا شك فيه أيضاً أن من صوّر عوراته ونشرها أنه قد آذى المسلمين بفعله هذا ، والله يقول : ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ﴾[الأحزاب: 58] ، فإذا كان المسلم قد مُنِع من أذية المسلمين في أمور دنياهم ومعاشهم فبالأولى والأحرى أن يؤذيهم في دينهم وفي أعراضهم ، وقد علم من نصوص الشريعة التشديد في الحفاظ على الأعراض عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول - صلى الله عليه وآله وسلم – خطب الناس يوم النحر فقال :" يا أيها الناس أي يوم هذا ؟ قالوا : يومٌ حرام، قال : فأي بلد هذا ؟ قالوا : بلدٌ حرام . قال : فأي شهر هذا ؟ قالوا : شهرٌ حرام . قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ؛ فأعادها مراراً ؛ ثم رفع رأسه فقال : اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ " قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته .(25) ، ولأجل الحفاظ على الأعراض شُرِع الزواج حتى لا يتطلَّع المسلم إلى أعراض الغير ، وحُرِّم الزنا وجعل له حد قاسٍ يصل إلى القتل رجماً على المحصن أو الجلد على غير المحصن ، بل حتى لو حصل هذا الزنا فإن الإسلام حرص على الستر، فجعل نصاب الشهود فيه أربعة شهود بما لم يجعله في غيره من الشهادات ،كما حرم الإسلام القدح في أعراض المسلمين بغير برهان فأوجب حد القذف واعتبره من السبع الموبقات . قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم – " اجتنبوا السبع الموبقات . قيل : يا رسول الله وما هن ؟ قال :" الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.."(26) واستحق فاعله بذلك اللّعنة في الدنيا والآخرة ، والعذاب العظيم ، قال تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 23] ، واعتبر الإسلام سباب المسلم فسوقاً ومن الحِكَم في ذلك ألا يتعود الناس سماع الكلام البذيء والفاحش فيؤدي ذلك إلى الاستهانة بالأعراض فتشيع الفاحشة ، واعتَبر أنَّ من تمام إسلام العبد أن يكفَّ أذاه عن المسلمين كما قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم –: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " (27)، وإذا كان المسلم مطالبٌ ألا يُعرِّض نفسه للفتنة فكيف له أن يُعرِّض غيره ، ولا شك أن هذه الصور تناقض ما تقدم من الحفاظ على الأعراض ، بل أنها مما يساعد على الاعتداء على الأعراض وقد علم أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد .
ومن خلال ما سبق كله يتبين لنا أن تصوير هذه الصور ونشرها والترويج لها من المحرمات التي لاشك في حرمتها لما تقدم من النصوص الشرعية الكثيرة المتضافرة على ذلك ، ولأنها لا تتفق ومقاصد الشريعة من الحفاظ على النسل والعرض وسد باب الفتن عن الناس ؛ والله أعلم .
والحمد لله رب العالمين
وهو الهادي إلى سواء السبيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل
وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الفقير إلى عفو ربه العلي علي بن عبد الرحمن بن علي دبيس
الثلاثاء – 11ربيع الآخر 1427هـ ، 9/5/2006م
(1) صحيح البخاري ( جزء 2 صفحة 870 ) ، صحيح مسلم ( جزء 3 صفحة 1675 ).
(2) تفسير القرطبي ج: 12 ص: 223 ، والحديث في سنن أبي داود ( جزء 1 صفحة 652 ) قال الألباني : حسن .
(3) تفسير ابن كثير ج: 3 ص: 283 .
(4) تفسير القرطبي ج: 12 ص: 222 ، وانظر صحيح البخاري ( جزء 5 صفحة 2299 ).
(5) تفسير ابن كثير ج: 3 ص: 282 .
(6) تفسير الطبري ج: 18 ص: 117 .
(7) تفسير القرطبي ج: 12 ص: 222 .
(Cool تفسير القرطبي ج: 12 ص: 223 ، وبنحوه في تفسير ابن كثير ج: 3 ص: 283 ، والحديث في سنن الترمذي ( جزء 5 صفحة 97 ) ، سنن أبي داود ( جزء 2 صفحة 437 ) قال الألباني : حسن .
(9) تفسير القرطبي ج: 14 ص: 177
(10) تفسير ابن كثير ج: 3 ص: 483 .
(11) تفسير الطبري ج: 22 ص: 2.
(12) تفسير القرطبي ج: 12 ص: 309.
(13) تفسير الطبري ج: 18 ص: 167.
(14) تفسير القرطبي ج: 14 ص: 243.
(15) انظر تفسير ابن كثير ج: 3 ص: 519.
(16) تفسير القرطبي ج: 12 ص: 206.
(17) انظر أضواء البيان ج:9 ص:147
(18) مسند أحمد ج: 6 ص: 361 ، قال الألباني : صحيح ، انظر: صحيح الترغيب والترهيب ( جزء 1 - صفحة 40 )
(19) سنن الترمذي ج: 5 ص: 114، سنن أبي داود ج: 4 ص: 39 ، سنن ابن ماجه ج: 2 ص: 1234 ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ، ج1/40.
(20) سنن النسائي ج: 8 ص: 153 ، مسند أحمد ج: 4 ص: 413 ، وبنحوه في سنن الترمذي ج: 5 ص: 106، وصححه الألباني في الصحيح الجامع ، ج1/33 .
(21) صحيح البخاري ج: 5 ص: 2304 ، وبنحوه في صحيح مسلم ج: 4 ص: 2046
(22) صحيح مسلم ج: 3 ص: 1680 ، وبنحوه في مسند أحمد ج: 2 ص: 355
(23) صحيح البخاري ج: 5 ص: 2007 ، وبنحوه في سنن الترمذي ج: 5 ص: 109
(24) فتح القدير 1/ 293
(25) صحيح البخاري ج: 2 ص: 619 ، وبنحوه في صحيح مسلم ج: 3 ص: 1306
(26) صحيح البخاري ج: 3 ص: 1017 ، صحيح مسلم ج: 1 ص: 92
(27) صحيح البخاري ج: 1 ص: 13 ، صحيح مسلم ج: 1 ص: 65
[center]