[center]الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فكم هو محزنٌ حقاً، ومؤسف جداً، أن ينصرف بعض الأمة إلى الاشتغال بتفاهات عقيمة، وملهيات مذمومة، وجدالات ممقوتة، تاركين وراء ظهورهم الحِمْل الثقيل الذي ليس له إلا العظماء من هذه الأمة.
تراهم يشتغلون بعيوب الناس، وتناسوا عيوبهم، تراهم يعزون في أعراض إخوانهم، وسلم أعداؤهم منهم، لا هَمَّ لهم إلا فتل عضلاتهم أمام الناس بالقيل والقال، إنْ صدقاً وإنْ كذباً.
وكل ذلك والله، بسبب إعراضهم عن العلم والتعلم، ولو للتأسيس، ومعرفة ما يجب تعلمه على كل مسلم ومسلمة، وصادَف ذلك ركونٌ للشهوات، وتلبّس بالسيئات. وإن تعجب فعجبٌ أن الريادة والقيادة كانت في الأمة الإسلامية عربها وعجمها، في القرون الماضية، ولهذا صارت أمة متفوّقة شامخة في فنون العلم وطرائقه، في كافة مستوياته، والأمم الأخرى عيالٌ عليها في ذلك كله.
ولكنها الحقيقة "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد: من الآية11). وهذا لعمر الله عقوبة من الله _عز وجل_ لهذه الأمة، لمّا فرّطت في دينها وكتاب ربها.
وما التأخر العلمي والقيادي والتخلف التقني الذي تعيشه الأمة إلا ثمرة من ثمرات الجهل في عدد من الميادين.
وعلى صعيد آخر تجد على مساحات شاسعة، انتشار واسع للعلم في كافّة فنونه، وتنوّع سبله، ويجهد الكثير في الإفادة والاستفادة، والعمل على تسخير الطاقات المادية والبشرية.
ومع ذلك كله، يُلحظ الجهل على فئام من الناس كثير، بل تعداه إلى أفراد ومؤسسات.
وعند تشخيص المشكلة، تجد خللاً واضحاً يتمثّل في إهمال التحلِّي بأساسات التعلم والتربي، الإخلاص مثلاً، والمنهجية الهرمية مثلاً آخر، وعدم الأهلية للمربي أيضاً ومتى فُقِد الإخلاص، لا ترى أثراً يُذكر أحياناً، لعملٍ ما، فبركته تكاد تكون منزوعة.
وبعض الناس في هذا الزمن، وخاصة ممن وهبهم الله عقولاً متميزة، قلّت رغبتهم في العلم والتفرغ له في كافة فنونه، وانصرفوا إلى الدنيا، فاشتغلوا بها فنسوا العلم، واندثرت آثاره إن لم تُعدم.
وبعضهم إذا تزوج أو اشتغل بكسب لقمة العيش من وظيفة أو نحوها من متطلبات الحياة، أعرض عن العلم اختياراً بلا سبب، فلا يسأل إذا اشتبه عليه شيء، ولا يتوقى إذا خشي الوقوع في الإثم، بل لا يتعنّى أن يتعرّف على الحلال فيُقبل عليه، ويتعرّف على الحرام فيهرب منه.
وما روى قول سعيد بن جبير _رحمه الله_: "لا يزال الرجل عالماً ما تعلّم، فإذا ترك التعلّم، وظن أنه قد استغنى فأسوأ جهلٍ ما يكون".
والمعنى أي أجهل ما يكون هو، في تلك الحالة التي ظن أنه في مرحلة ليست بحاجة إلى علم، ومن أعرض عن تعلم أحكام الشرع، فهو مبغض عند الله _عز وجل_، وقد صحَّ في الحديث أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "إن الله _تعالى_ يُبغض كل عالمٍ بالدنيا، جاهلٍ بالآخرة"، وليته يقف عند هذا، بل إنه بفعله هذا شابه الصوفية التي تفضّل علم الخِرق على علم الورق، فالصوفية هؤلاء استجابوا لأذواقهم، حتى أعطوها سلطة المُشرِّع، يأتمرون بأمرها، وينتهون بنهيها.
وقد قيل لبعضهم: ألا ترحل حتى تسمع من عبد الرزاق، فقال: "ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق، من يسمع من الخلاّق".
أيها القارئ الكريم:
إن الاهتمام بالقراءة والكتابة، والعلم والتعلم، لازمة لكل مسلم، فالله _تبارك وتعالى_ قد امتن على عباده المؤمنين بذلك، فقال: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" (العلق:1-5)، فمِن كَرَمه _جل وعلا_ أنْ علَّم الإنسان ما لم يعلم، فشرّفه وكرّمه بالعلم، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي.
فالاستمرار في طلبه وتعلّمه لا حدَّ له، قال ابن أبي غسّان – رحمه الله-: «لا تزال عالماً ما كنت متعلماً، فإذا استغنيتَ كنتَ جاهلاً».
وشرف العلم لا يخفى على أحد، إذْ هو المختص بالإنسانية؛ لأنّ جميع الخصال سوى العلم، يشترك فيها الإنسان وسائر الحيوانات، كالشجاعة والجرأة، والقوة والجود والشفقة وغيرها، إلا العلم.
وبه أظهر الله _تعالى_ فضل آدم _عليه السلام_ على الملائكة، وأمرهم بالسجود له، ولهذا صار التعبد لله على غير علم من أكبر المفاسد التي تقع فيها الأمة، وما المعالم الغائبة، والأخلاق الضائعة، والبدع الرائجة إلا بسبب الجهل الذي نرزح تحت وطأته، وأي ضلالة أكبر، أن يتصدّر في الأمة، في مشارقها أو مغاربها عالماً لا خلاق له، يبيع دينه بدراهم معدودة، أو رئيساً مطاعاً لا يعرف كوعه من كرسوعه، حقاً، إنها فتنة لكل مفتون.
وقد صحَّ في الحديث أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم، فضَلّوا وأضلّوا".
ومهما بلغ الأفراد والناس والمؤسسات العلمية ونحوها، وحققّوا نشاطاً ملموساً، وعملاً دؤوباً، فإن قليل العمل ينفع مع العلم، وكثير العلم لا ينفع مع الجهل.
وما نلحظه في بعض الأحايين من أقوالٍ مخالفة، أو أعمالٍ خاطئة، سواء في تعليم الناس أو دعوتهم أو تربيتهم، سببها الجهل الذي نعيش في لظاه، قال عمرو بن ضرار - رحمه الله-: "والذي لا إله غيره، ما عمل عامل قط على جهل، إلا كان ما يُفسد أكثر مما يُصلح"، والعلماء وروّاد العمل الإسلامي هم أكثر الناس حاجة للعلم، وخطأهم أعظم الأخطاء، وقد قيل: "زلة العالم مضروبٌ لها الطَّبْل".
وقد سُئِل سفيان بن عيينة: من أحوج الناس إلى طلب العلم، قال: "أعلمُهم؛ لأن الخطأ منه أقبح".
أخي القارئ الكريم:
إنها دعوة جادة لتصحيح المسار الذي نسلكه، والأمة الآن مطالَبة بأن تُشمِّر عن ساعد الجد، وتسعى سعياً حثيثاً لأن تستعيد أمجادها، فتراجع أحوالها، وسبل تنفيذ سياساتها، وتنفض الغبار عن قراراتها العتيقة، وتعمل جادّة على إنشاء دور العلم وحلقات الذكر، وتحرص على إقامة مراكز للدراسات والبحوث، النظرية منها والتطبيقية، ومعاهد أخرى للتدريب والاستشارات في كافّة التخصّصات.
إننا نستحث المسلمين أجمعين في كل مكان أن يسعوا إلى وضع آليات متاحة، وفي مقدور كل أحد، لنشهر هذا العلم الأصيل لأمة أصيلة مرحومة.
والمشاركة والمساهمة في وضع لبنات لهذا الإصلاح المنشود.
ونحن بهذا لا نُزري في وصف حالنا، بل إن أحوال العالم الإسلامي، وعلى مرِّ الأزمان، تتقهقر حيناً، وتشمخ حيناً آخر، وهكذا دواليك.
والناظر لأحوال المسلمين في كل مكان وزمان، يُدرك أن الأمر في كلٍ مختلف، وإلا فالحال على سبيل العموم، وصف النبي _صلى الله عليه وسلم_ فيما صحّ عنه "لا يأتي عليكم عامٌ ولا يومٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه، حتى تلقوا ربكم".
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
جماز بن عبد الرحمن الجماز [center]